في أروقة سجن صيدنايا، تتكشف أهوال تحمل بصمة نظام القتل الصناعي الذي طورته النازية، لكن بتجسيد أشد عصبوية ووحشية، هنا تتداخل منظومة التعذيب والقتل مع فكرة القمع الشامل، لتصبح صيدنايا مختبرًا مُظلمًا يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يُحطّم ويُحوّل إلى رقم في منظومة بيروقراطية للقتل، ثم يُمحي تمامًا وكأنه لم يكن، كل هذا مستوحى من مدرسة القمع النازية، التي ساهم ألويس برونر في تصديرها إلى سوريا.
كان ألويس برونر ضابطًا نازيًا برتبة نقيب (Hauptsturmführer) قوات الأمن النازية الخاصة (Schutzstaffel – SS)، ومقرباً من أدولف أيخمان، أحد أبرز القادة في النظام النازي وصاحب الدور المركزي في تنفيذ وهندسة المحرقة النازية، تميّز برونر “ببراعة” بيروقراطية في تصميم وتنفيذ برامج القتل النازي، وُصف بأنه رجل شديد الولاء، ولا يتردد في استخدام العنف بأبشع أشكاله لتحقيق أهدافه، وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية، تمكّن برونر من التهرب من المحاكمة، في البداية، عاش تحت هويات مزورة في أوروبا الشرقية قبل أن يجد طريقه إلى الشرق الأوسط، حيث لجأ إلى سوريا في الخمسينيات بمساعدة شبكات تهريب نازية نشطة، أبرزها شبكة أودِسا (ODESSA)، التي ساعدت نازيين بارزين على الهروب إلى أماكن آمنة.
وَفَّرَ النظام البعثي السوري الملاذ لبرونر مقابل خبراته القمعية، عاش في دمشق تحت اسم مستعار “جورج فيشر”، وتمتع بحماية الأجهزة الأمنية السورية وعمل مستشاراً لدى حافظ الأسد، ما قدمه برونر للنظام السوري لم يكن مجرد نصائح في إدارة السجون، بل منظومة متكاملة لتحطيم الإنسان، تتجلى هذه الفلسفة في تحويل السجن إلى مصنع للموت.
في معسكرات الإبادة النازية، كانت “كفاءة القتل” محورية، اليهود وغيرهم من الضحايا كانوا يُساقون إلى غرف الغاز، حيث يتم قتلهم جماعيًا بطرق محسوبة توفر الجهد والوقت، بعد ذلك، يتم حرق الجثث في أفران ضخمة، بينما تُفرز متعلقاتهم الشخصية أو حتى بقاياهم (كالشعر والذهب) للاستفادة منها، هذه المنهجية انعكست في صيدنايا، لكن مع تطوّر يناسب طبيعة النظام الأسدي. هُنا لا يُنظر إلى الجثث على أنها دليل على الجريمة، بل على أنها “عبء لوجستي” يجب التعامل معه بطريقة منظمة، غرف الإعدام تشبه خط إنتاج ميكانيكي، حيث يتم الشنق بكفاءة تصل إلى العشرات يوميًا، ثم تُنقل الجثث إلى المكابس، حيث يتم ضغطها لتقليل حجمها وتسهيل التخلص منها. بعدها تُحرق أو تُدفن في مقابر جماعية، دون ترك أي أثر يشير إلى هوية الضحايا.
في كتابه الحداثة والهولوكوست، يشير زيجمونت باومان إلى أن الحداثة أتاحت أدوات لتحويل القتل إلى عملية روتينية تفصل بين القاتل والضحية، هذا الفصل يسمح بتنفيذ الجرائم دون أي شعور بالذنب، حيث يُختزل الإنسان إلى رقم أو مادة، في صيدنايا، يتجلى هذا التجريد بأقصى أشكاله، الإنسان هناك ليس أكثر من جسد يجب تحطيمه، ثم التخلص منه، يمر المعتقلون بمرحلة أولى من التجريد تبدأ بفقدانهم أسمائهم وهوياتهم، يصبح كل منهم مجرد “رقم” يُضاف إلى قوائم الإعدام، وخلال التعذيب، يُعاملون كأشياء بلا قيمة، تُكسّر عظامهم وتُسحق أرواحهم حتى يتجرّدوا من أي إحساس بالذات، وعندما يحين وقت الإعدام، يتم تنفيذ العملية ببرود تقني يشبه إدارة مصنع، الجثة الناتجة عن الإعدام لا تُعامل كبقايا إنسان، بل كمادة خام يجب معالجتها، سواء بالكبس لتقليل الحجم، أو بالحرق للتخلص النهائي.
في سوريا الأسد، تطورت الفكرة النازية لتأخذ شكلًا عصبيًا أكثر تطرفًا، النظام الأسدي يرى نفسه كدولة إلهيّة تُقرر من يحق له البقاء على قيد الحياة ومن يجب أن يُمحى في هذا النظام، الولاء هو المعيار الوحيد الذي يحدد قيمة الإنسان، إذا كان الفرد مواليًا، يُسمح له بالبقاء كجزء من الحشود الخانعة، أما إذا كان معارضًا، أو حتى مشتبهًا به، يصبح “نفاية بشرية” يجب التخلص منها.
ومع مفارقة أنّ النظام النازي كان يسعى لتحقيق أهداف عنصرية وسياسية على نطاق عالمي، فإن النظام الأسدي يدير مشروعًا يعتمد بالكامل على إنتاج الخوف، بهذا المعنى فإن صيدنايا ليست مجرد مكان لإبادة الأعداء، بل هي أيضاً رمز لنظام يحكم من خلال الرعب، كل شخص في سوريا يدرك أن إمكانية الاعتقال والتعذيب والموت في صيدنايا وشقيقاتها حقيقية، وهذا الخوف يشل المجتمع ويضمن ولاءه، هُنا، حتى البقاء على قيد الحياة يُعتبر “نعمة” يمنحها النظام، والمواطن السوري وبغض النظر عن ولائه يجب أن يعيش في ظل تهديد دائم بالإزالة والإذلال اليومي يجب أن يُمارس كوسيلة لترسيخ هذا الشعور، الأشخاص الذين يُعتقلون ثم يُفرج عنهم غالبًا ما يكونون أشبه بظلال بشرية، محطمين نفسيًا وجسديًا، يعيشون في خوف دائم من العودة إلى الجحيم، والأهم من ذلك هم شهادات حيّة تعيش بين الناس أن صيدنايا موجود بالفعل..
ما حدث هُنا ليس مجرد استبداد سياسي، بل هو شكل من أشكال الانحطاط الأخلاقي الذي يجعل حتى الجرائم النازية تبدو مألوفة بالمقارنة، نظام الأسد تجاوز فكرة القمع إلى بناء منظومة تستهدف القضاء على فكرة الإنسان نفسه، في هذا العالم المظلم يصبح الإنسان مجرد “شيء” يُعالج، ثم يُستهلك، ثم يُمحى. إنها شهادة على قدرة البشرية على الانحطاط إلى أعماق جديدة من الوحشية، إذا لم تُواجه بأقصى درجات الإدانة والرفض ونصب المحاكم العادلة.