أمام مسؤولية تاريخية أمام الله ثم أمام الثورة، حمل الجميع بنادقهم في حلب المُحاصرة، لم يَعُد هناك معنى للطبابة أو الكتابة أو رفع الأنقاض، ولم يعد من معنى لتفوق الذكورة على حُرمة النساء اللواتي تعلّمن في خمس دقائق آلية الإطلاق وتغيير المخازن، الحرام الوحيد كان أن تلمس أجسادهن أيادي الغزاة وهن على قيد الحياة.
أمامها، بايع بضعة عشر رجلاً على الموت في أزقة الكلاّسة، وماتوا، بايعوا أن لا يمر الغزاة إلا فوق أجسادهم، ومرّوا، ثم تعانقوا في وداعهم الأخير غير آبهين بالموت الّذي انتظرهم بعد ساعات قليلة، قاتلوا انتقاماً للنساء اللواتي أحرقتهم ميليشيات الحقد الطائفية في حي الفردوس قبل يوم وللأطفال الّذين عانقوا أجساد أمهاتهم فاحترقوا معهم، قاتلوا ثأراً للأرض المدنّسة ولأكثر من نصف مليون شهيد.
أمامها، طلبوا منّا أن نُسامحهم! وكأننا كُنّا نحن المحاصرين لا هم، كانوا مئة ألف، وكُنا لا نعلمُ كم عددُنا من كثرتِنا! ورُغم أن الحنقَ علينا كان يبلغُ في أجسادهم مبلغ السيل، إلا أنّهم ارتضوا السكوت على جرح مشاعرنا واتهامنا بالخيانة، كانوا يريدون استقبال الموت بسكينة.
أمامها، طالبت أحداهن بفتوى تجيز لها الانتحار على أن تقع في أسر الغُزاة، كانت تظن جسدها أطهر من كُل النصوص التي تحرّم قتل النفس، ستخرجُ غداً من حلب وستخبر أطفالها كم هي سعيدة أنهم مازالو على قيد الحياة، وأنها معهم.
أمامها، فتح أحدهم جوّاله ليكتب للحبيبة وداعه الأخير، كانت أُمّه، كتبت إليه أن يموت رجلاً، كان أغرب حديث يدور بين أمٍّ وابنها، كانت تطلب منه أن يُقاتل، كانت تطلب منه أن يموت .
أمامها، طالب أحد الشيوخ أكثر من 50 شخصاً من عائلات عجم والحسن ومصري وآل سندة أن يقفوا بثبات أمام حائط المقبرة، قبل أن تخترق أجسادهم بضع مئات من طلقات الرصاص، كان الغزاة أجبن من ينظروا إلى وجوههم، فطلبوا منهم الاستدارة .
أمامها, استدارت إحدى العجائز وهي تسأل الله أن يٌسامحها لأن حركتها البطيئة كان سبباً في تأخر 5 أفراد من عائلتها عن الانسحاب، كانت قد ظنّتهم فارّين من الموت !
أمامها, كتب سارية البيطار للقائد،” سامحنا يا خاي، سامحنا يا حجي، سامحنا يا قائد عبد القادر الصالح”.
وأمام انعدام الضمائر، جلسنا نُراقب ونشجن وننعي وننتظر هزيمتنا التالية بالمزيد من الانقسام .