كان أسهل علينا , بعد ست سنين أن نقول أننا على الحياد , وأن نساوي بين المجرم والضحية كي نبرر لأنفسنا هجرتنا البعيدة , وأن نقول أن الطرفان قاتلان , وأن نساوي بين إرهاب النظام الممنهج بجيشه وحكومته وأجهزته الإعلامية , وبين بعض الجماعات المتطرفة هنا وهناك , كان أسهل علينا أن نقول أن الثورة مسروقة وأن نكون براغماتيين حد التوبة والعودة لحضن الوطن , كان ذلك أسهل علينا بكثير .
وكان أسهل من كُل هذا أن نكون أبواقاً لميليشيات القتل , التي ترى الإرهاب في كل من عارضها وطالبها بالرحيل , أو أن نكون أبواقاً للخلافة المريضة التي ترى الكفر في كل من لم تمتحنه في دينه , كان ذلك مهرباً لذواتنا المليئة بالآلام والتي تكبت في صمتها غرائز الإنسان الأوّل وهمجيّته , الغرائز الّتي تبحث دائماً عن كل ما يشرعن لها الانتقام والثأر والسلب والسرقة والقتل .
ولكننا وبعد ست سنين , مازلنا على عهدنا الأوّل , مازلت أذكر بضحكةٍ كُلّما آلمتني ذكرى مجزرة , أبيات محمود درويش ” أرضنا ليست بعاقر , كل أرض ولها ميلادها , كل فجر وله موعد ثائر ” , وكنت قبل الثورة أقول , سيحدث كل شيئ وأي شيئ , إلا الثورة في هذه البلاد , وحدث .. وكان عهدنا الأوّل أننا نريد أن نكون أحراراً , لا مريدينَ لشيخٍ أو غنماً خلف القائد الراعي , أو جماجم فارغة مملوئة بأوهام الخلافة , كُنّا نريدها لله خالصة , ولأنفسنا حُريّة .
وكان أسهل علينا من كل ما مضى أن نقول أننا ثوّار , وأن نكتفي بهزّ الرأس في محافل اللجوء ومنتدياته , وأنّ نستعيض عن القهوة المطبوخة على حطبٍ مشبوبٍ على سطح دارٍ في القرية , أن نستعيض عنه بالاكسبريسو المطبوخ في مقاهي فيينا , وأن نستبدل أشكالنا وملامحنا وكُلّ أصدقائنا , وأن نختلس في المساء حنيناً إلى أيّام العيش الخالي من الكرامة , وأن نندم خلسةً على ما صنعتهُ كلماتنا من جلبٍ للقتل والتعذيب والتشريد , أأقول لك ! اشرب نرجيلتك اليوميّة بهدوء , ولا تستعض عن قهوتك بأي شيئ , لا تختلس الحنين أو الندم , ولا تقل أبداً أنّك ثائر .
أنا أزاود على نفسي قبل أن أزاود عليكم , كي لا ننسى الشهداء , لو لم يكن لاستمرار الثورة إلا ذكرى الشهداء لكفاها كفاحاً , وكي تكون المبادئ التي نؤمن بها معياراً لكل ما نقوم به , والثورة معيار , بالنسبة لي على الأقل .