في رائعته ” المسخ ” والتي حملت بشكل أو بآخر جزءاً من هويته، يستعرض فرانس كافكا أحد روّاد الأدب الألماني قصة غريجور سامسا الذي يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول لحشرة.
أردا غريجور أن يكذّب ما ظنّ أنه حقيقة، فلم يستطع كحشرة أن ينحني من فراشه وعندما سقط على الأرض ورأى ملامحه في المرآة لم يتحمل كذلك تصديق ذلك الكائن الذي تحول إليه، إلا أن الشيئ الذي أكد لا معقولية هذه الأحداث عائلته التي انصعقت من حركاته ثم بدأت بمعاملته كحشرة منذ ذلك اليوم، هذا ما جعله يصدّق حقيقة حالته الجديدة.
يريد كافكا من هذه الرواية القصيرة القول أن ما يظهره الناس لك من مشاعر وتعابير لا يعبّر بالضرورة عن حقيقة ذاتك، وأنّ شخصيتك التي تراها بتصرفات المجتمع تجاهك لا تعكس بالضرورة أيضاً مكانتك الحقيقية به، هذا مالم يكتشفه غريجور الذي قبل بأنه مسخ وسخّر كل تصرفات الناس له على أنها دلائل وبراهين تحوله لحشرة ضخمة، رغم أن تصرفاته كانت على عكس ذلك فلم يرغب غريجور أن يتحول لحيوان ولكنّ هذا الشعور باغته كشيئ غريب و غير مفهوم بشكل مخيف.
تراقب الرواية انمساخ غريجور نتيجة ضغط العمل والأسرة والرغبة بالانعزال وتشرح باسهاب مراحل تحوله، ولكن هل انعزال غريجور في غرفته هو القالب الوحيد للانمساخ، ألا تحتوي المجتمعات على أفراد يعانون مشاكل نفسية أكبر، ماذا عن الذين امتهنوا بروباغندا النجاح؟ أليسوا أكثر خطورة وهم الّذين يسيرون إلى تحولهم الحيواني بامتنان، على عكس غريجور الّذي كان مناهضاً للتحول في داخله.
إن شعورك بالنجاح لا يعني بالضرورة وجوده فيك، وفهمك لتصرفات الناس حولك على أنك ناجح لا يعني بالمطلق أنّك كذلك، كل مافي الأمر أنّك مسخ ولكن في درجة مختلفة، يقول كافكا : “ كيف أصبحت الشخص الذي أنا هو؟ هل أنا نفسي فعلا، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخص الذي أنا هو؟ ”.
يصبح الكثير مسخاً ثقافةً وقيماً وسلوكاً في مجتمعات الزيف حتى المثقفين منهم، ذلك أن زيادة المستويات التعليمية للأفراد تتناسب غالباً بزيادة افتقارهم للعقل النقدي وتخلفهم المعرفي، لا ينجح في هذه المجتمعات إلا من استطاع فك رموز التخلف ورمى قيم الأفكار الزائفة في سلة المهملات.
كذلك تصبح المجتمعات أكثر رداءةً عندما يأخذ الفرد أهميته من مقدار ما يقوله عن نفسه من خطابات المديح والثناء، لا من ما يؤديه من عمل، إن مجرّد هزة الرأس أمام أحد المجنونين بذاتهم كافية لأن ترسّخ مفهوم النجاح لديه وإن لم تعني ذلك، في كثير من الأحيان يكون الاطراء قاتلاً لمتلقيه.
أفضل ما يمكن أن نفعله هو أن نتصالح مع أنفسنا وأن نحقق أحلامنا الكبيرة بعمليّة، كي لا نكون حشرةً مريضة بالفشل، أو مسخاً موهوماً بالنجاح .